تحدد الديانات السماوية في اليهودية والمسيحية والإسلام باعتبارها تقوم على أساس شرائع منزلة ومتضمنة في كتب أوحي بها لرسل وأنبياء بعينهم, وليست مهمتنا هنا۔ التأريخ لهذه الأديان الثلاثة بقدر ما أن المهم هو طرح (أو إعادة طرح) سؤال جوهري مرتبط بمفهوم التنوير تحديدا: كيف تستقيم فكرة إدراك الرشد العقلي التي هي مضمون التنوير بامتياز مع واقعة الوحي التي تفترض نظريا ومبدئيا حاجة الإنسان إلى الوصاية والتوجيه؟ وبالطبع، فالمسألة لم تطرح بالوضوح المقدمة به هنا إلا في خضم نقاشات بدأت لاهوتية وانتهت فلسفية, وما تقترحه في هذا الصدد بالضبط هو فحص هذه المسألة كما اكتمل طرحها فلسفيا فيما ندعوه عامة- بالرشدية (نسبة إلى الفيلسوف المسلم ابن رشد 11261198م).
ومن جهة أخرى، فليس المهم في هذا المنظور- إعادة كتابة ما هو معروف ومشهور حول شخصية ابن رشد وفلسفته الخاصة منذ ما كتبه إرنست رينان في 1852م وفرح أنطون في 1904م إلى أبحاث آلان دو ليبيرا المتقدمة وقراءات محمد عابد الجابري الراهنة, وبالمقابل فسنركز على ما نعتبره الواقعة التاريخية والفكرية الأبرز في سياق محاولة إبراز ما ندعوه ب "جذور التنوير": تحول فلسفة ابن رشد العقلية التأويلية ذاتها إلى صيغة عامة وفضفاضة, تتجاذبها بل وتتماهي معها صيغ عقلية تأويلية بعينها, تطرح مسألة العقل والإيمان إسلاميا ويهوديا ومسيحيا.