حظیت الدراسات النقدیة بشیوع واسع في التسعینات، وقد جاءت بعد انحصار النظریات النقدیة النصوصیة والألسنیة وتحولات ما بعد البنیویة. وإذا كانت الدراسات الجدلیة قد أعلنت موت النص، والدراسات البنیویة قد أعلنت موت الإنسان، فإن الدراسات الثقافیة لم تعد تنظر إلى النص بما هو نص، ولا إلى الأثر الاجتماعي الذي قد یظن أنه من إنتاج النص، بل صارت تأخذ النص من حیث ما یتحقق فیه وما یتكشف عنه من أنظمة ثقافیة، وأنماط تعبیریة وإیدیولوجیة وأنساق تمثیلیة، تمارس شتى أنواع الهیمنة والتحكم في المتلقي الفردي أو الجماعي، بطرق متخفیة، وترسم جغرافیا تمثلاته الذهنیة وآفاقه التأویلیة، وترسخ قیماً ومقولات وسلوكات قد تكون ضد الإنسان وضد وجوده، أي التأسیس لنسق ثقافي لا إنساني. واشتهر النقد الثقافي، باعتباره مبحثاً حیویاً داخل الدراسات الثقافیة، بما أحدثه من تغییر مهم في منهج تحلیل الخطابات واستثمار المعطیات النظریة والمنهجیة لحقول معرفیة متداخلة كالسوسیولوجیا والتاریخ والسیاسة والفلسفة والآداب. ویرتكز النقد الثقافي على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي كما هي لدى بارت ودریدا وفوكو مثلاً وغیرهم من رواد الدراسات الثقافیة. كما یولي النقد الثقافي أهمیة كبیرة لدور المؤسسة العلمیة والثقافیة، كیفما كانت، في توجیه الخطاب والقراء نحو نماذج وأنساق وتصورات یتأسس معها الذوق العام وتتخلق بها الصیاغة الذهنیة والفنیة، وتصبح معیاراً یُحتذى أو یقاس علیه وقد برز في العالم العربي والإسلامي النقد الثقافي بشكل خجول، ولا یزال في بدایته أمام هیمنة المؤسسة وجبروتها وقوة دفاعاتها. وقد برز في هذا المجال ثلاثة رواد هم إدوارد سعید وعبد الجواد یاسین وعبد الله الغدامي، مما فتح مجالات جدیدة للخطاب النقدي العربي وسمح بتنویعه وإكسابه فعالیات القراءة والتحلیل والنقد؛ نقد الدراسات العلمیة، ونقد الخطاب النقدي القائم كمؤسسة وكانحیازات. وبتعمیق هذا الخیار النقدي سیتطور منهج قراءة الثقافة العربیة كفعل حي. وسنعتمد إسهامات أولئك الرواد للوقوف على معنى النقد الثقافي والتعریف به وسط القراء في العالم العربي والإسلامي، كما سنقف عند دور هذا النوع من النقد في الكشف عن الأنساق الثقافیة الإسلامیة والتي تعیق أیة رغبة حقیقیة في التألیف وتحقیق عمل جماعي مشترك ونافع.