تبرز نظرية التناص اليوم على الساحة الأدبية النقدية و تشغل حيزا كبيرا لما تحويه من قضايا هامة ، فالتناص يتعلق بقضية قديمة حديثة - السرقات الأدبية - كما نعلم ، وهو وإن ظهر كنظرية حديثة مستقاة من الفكر النقدي الغربي إلا أن هناك أن من يرى للتناص جذورا في أدبنا ونقدنا العربي القديم ، إذ أولى النقاد العرب القدماء مفهوم (التداخل النّصي) عناية كبيرة تمثلت في مسميات مختلفة كالموازنة، والمفاضلة
والوساطة والتضمين ،والاقتباس والاستشهاد ،والسرقات والمعارضات، والنقائض...
الخ
فالتناص اليوم مؤشر قوي على درجة الإبداع في النص ؛ ذلك أن وجوده يعني في المقام الأول ثراء النص وغناه ، كما أنه يفرض على الأديب عموما والشاعر على وجه الخصوص تقنيات معينة يتم بها توظيف النص الغائب وهو ليس نقلا لنصوص سابقة أو مجرد اقتباس لها ، بل إنه عملية معقدة - على بساطة ظاهرها - لأنها تستدعي نصوصا عدة وتوظف تقنيات واستراتيجيات مختلفة وتتطلب طاقات و قدرات متنوعة ، وبوجود هذا كله يتمايز نص عن غيره وله يكتب الخلود دون سواه .
وهكذا فالتناص يلعب دورا رئيسا لا يمكن إغفاله في تلقي النص وتحليله فهو دلالة
قوية على الإرث اللغوي الثقافي الذي يتحرك فيه النص وهو يُعرف القارئ بالعوامل
المؤثرة على النص ، لأنه يقوم على استدعاء النصوص بأشكالها المتعددة الدينية
والشعرية والتاريخية على أساس وظيفي يجسد التفاعل الخلاق بين الماضي والحاضر
من هنا جاء اختياري لعنوان هذا البحث " التناص في شعر البحتري ، والذي يدرس
قضية التناص لدى شاعر من شعراء أدبنا العربي المليء بأعلام الإبداع وهو البحتري ، .
والذي كثرت حوله البحوث والدراسات قديما وحديثا ، وانقسم حوله النقاد ما بين مادح وقادح ومؤيد ومعارض وشكل شعره علامة فارقة أججت خلافا مستمرا لم تخب ناره منذ أن كتب لشعره الذيوع والانتشار وهذا الخلاف بحد ذاته مؤشر على إبداع هذا الشاعر و ما يشغله من مكانة استدعت
هذا الخلاف وألهبت حماس الدارسين ، وهو خلاف رافق كل أديب وضع بصمته
الخالدة على طريق الأدب الرفيع الخالد وقد توزعت الدراسة على مقدمة و خمسة فصول تناولت نبذة عن الشاعر وبيئته
ومكانته ومذهبه الشعري ومقدمة عامة حول التناص ومصادره لدى الشاعر ثم
استعراض لانواعه في شعره .
أسأله سبحانه التوفيق والسداد إنه جلت قدرته من وراء القصد وهو يهدي السبيل.