ثمة مستلزمات وأوضاع لا تقوم الدیموقراطیة بانتفائها، كثیراً ما یفوت عقلنا السیاسي التفكیر فیها، وقوانا السیاسیة العمل من أجلها والمطالبة بها وتربیة أنصارها والرأي العام على أهمیتها وضرورتها. وإذا كان النظام الدیموقراطي نمطاً من الحكم التمثیلي یعكس - أكثر من أي نمط حكم آخر- إرادة الشعب ورغباته، ویعبر عن قدرته على المشاركة الفاعلة في تقریر مصیر حكوماته وأحزابه، فلأنه یقیم توازناً فاعلًا وناجحاً بین مكونات السلطة یكبح جماحها من خلال إلزامها بحكم القانون، ویخضِع السلطة التنفیذیة –أكثر السلطات خطورة وصلاحیات- لرقابة قانونیة ومؤسسیّة تقید قدرتها على الانفراد بالأمور تقریراً وتنفیذاً، دون أن یؤدي التوازن إلى تعطیل الحكم وإصابة الحكومة بالشلل. ویقیني أن غیاب هذه المستلزمات والأوضاع التي أعتبرها حواضن للدیموقراطیة یستحیل قیامها بدونها، بینما یفضي توفرها والالتزام بها إلى حسن سیر النظام الدیموقراطي، وإلى توطّده وجعله قادراً على مواجهة مشكلات الدولة والمجتمع بقدرٍ وافرٍ من الفاعلیة، فلا بد إذن من قیامها في بلداننا العربیة، إذا كان للدیموقراطیة أن تصبح نظام حیاة وسیاسة ومجتمع ودولة عندنا أیضا، علماً أن غیابها عنا لعب دوراً جوهریا في غیاب الدیموقراطیة عن
نظمنا السیاسیة وعلاقاتنا المجتمعیة والشخصیة، وأدّى إلى الأزمة التي نعیشها منذ تشكلت دولنا الحدیثة، والتي یعزو عقلنا السیاسي إلیها ما نعانیه من مشكلات حادة، وما نواجهه من عیوب تصم قدرتنا على إدارة قضایانا، ومن نقص فاضح في إضفاء طابع عقلاني على روابطنا مع ذواتنا ومع العالم.