الحدیثُ عن التراث العالمي عادةً ما یطولُ ویتشعبُ لیقفَ بنا أمامَ سؤالٍ ما انفك یُلِحُّ على المؤخین: أین ومتى بدأ هذا البحثُ الذي ما فتئ یهمُ المؤرخین للحضارة ویستلهِمُه فلاسفة العلوم؟ وَرَد علي هذا السؤال هو أن الاهتمام بالتراث العلمي وتاریخه لم یر النور قبل القرن الثامن عشر وفي قلب فلسفة التنویر. وربما یتعجب بعضنا من هذا الرد وینكرونه مستشهدین على ذلك بما كتبه السلف في تاریخ العلوم، وأعني بالسلف العلماءَ والمؤرخین على وجه السواء، من أيِّ جنس ومن أیة مِلَة كانوا. فلنأخذ أرشمیدسَ على سبیل المثال، فهو یقص علینا في فاتحة رسالته عن الكرة والأسطوانة نبأ سابقیه من علماء الإسكندریة مثل قونون وتلامذته قبل أن یستأنف هو نفسه البحث ویتعمق فیه. لم یسلك أرشمیدس في هذا الأمر مسلكاً فریداً بل یبدو أن هذا النهج في التألیف تشارك فیه كبار ریاضي الیونان. فأبلونیوس خلیفة أرشمیدس لم یتوان في سفره الضخم في المخروطات أن یُحَدِّثَ بما قدَّمه السابقون قبل أن یأخذ على عاتقه البحث الجدید. لم یقتصر الأمر على علماء الإسكندریة بل تجاوزهم إلى علماء الإسلام الذین أبدعوا صوراً أخرى لممارسة التاریخ. فعمر الخیام على سبیل المثال یسرد في أول جبره ما أتى به الخازن والقوهي وأبو الجود بن اللیث لحل المعادلات التكعیبیة بالهندسة قبل أن یصوغ مشروعه الجبري وقبل أن یشرع في تفصیله وتحقیقه. والجدیر بالملاحظة هو أن كل هذه المقدمات التي كتبها الریاضیون هي تأریخ للریاضیات بمعنى خاص، ففیها یذكّرون بنتائج السلف لبیان ما انتهوا إلیه قبل مواصلتهم البحث وعرض ما تیسر اكتشافه. وهذا النوع من التألیف التاریخي لم یكن بالنوع الوحید؛ بل ظهرت أیضاً منذ القدیم وخاصة عند المسلمین كتب الطبقات التي سُ جل فیها أسماء العلماء وبعض وقائعهم الصحیحة والمتخیلة وعناوین رسائلهم العلمیة. والشواهد على هذا عدیدة منها فهرست الندیم وتاریخ القفطي وطبقات ابن أبي أصبیعة وكتب ابن جلجل وصاعد وغیرهم.