تعد "التجربة الشعرية" من أبرز قضايا النقد المعاصر، مما لها أصول في النقد العربي القديم. وهي نتاج دراسة الأدب من طريق علم النفس، وتتسم هذه القضية بالدقة والحيوية في اقتباسها زمنًا لحظيًّا، قد يكون قصيرًا وقد يطول، ولكنها لحظة متوترة جدًا، ويحدث فيها من القلق والفوضى والإزعاج، ويبلغ فيها الشاعر من المعاناة لينال قصيدته.

وتتبيّن في كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"( ) –الذي ألفه القرطاجني في القرن السابع الهجري- ملامح جلية لهذا الموضوع المعاصر، وهو من تأليف أبي الحسن حازم بن محمد بن الحسن القرطاجني الأندلسي (ت684هـ)، الشاعر والناقد الفيلسوف، الذي عكف على دراسة المنطق والخطابة والشعر في حياته الموحشة بالأحداث الأليمة المتوالية. لذلك فإن تطرق القرطاجني إلى ملامح التجربة الشعرية في كتابه، يوشك أن يكون بدهيًّا، حينما يكون المؤلَّف نفسه هو حصيلة تفاعل مؤلِّفه مع تجربته النقدية والأدبية في أوساط مجتمعه، الذي تفشى فيه عُجمة اللسان واختلال الطباع، ثم اكتفى فيه الشعراء على قول كلام يتركب من وزن وقافية، ظانين أن بهما تقوم "حقيقة الشعر"، فتردى وتردت معه نظرة تقدير الناس للشعر، ثم احتقروه وحطّوا قيمته. ومع هذا الحال الثقافي تسقط الأندلس بيد الروم، ويخرج القرطاجني شريدًا إلى إفريقية، وقد اختلطت مشاعر الضياع فيه؛ ضياع الانتماء اللغوي ثم ضياع الوطن( ). فجاء كتاب المنهاج نتاج تجربة خاضها القرطاجني، ليعين بها الشعراء في خوض تجربة شعرية حقيقية لا يستهين بها المجتمع ولا يحتقرها ؛ فكان كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء".