لا یمكن تصوّر فكرة الحریّة داخل منظومة ثقافیّة قائمة على الدین إلاّ من زاویة العلاقة بین الإنسان والألوهیّة. ولقد ساد الاعتقاد من العصر الوسیط إلى الآن بأنّ الإسلام قد سلب الإنسان حریّة الفعل بإسناده الخالقیّة إلى الله، مثلما یقال إنّه سلب المجتمع حریّة التنظّم بإسناده الحاكمیّة إلى الله. ویعمد المسلمون المعاصرون إلى الردّ على هذا الاتهام بعرض الآیات القرآنیّة التي تشیر إلى حریّة الفعل الإنساني، لكن ثمّة تاریخ طویل من الآراء الكلامیّة قد امتدّ قرونا
ولا یمكن فسخه بجرّ ةَ قلم، وهو یثبت أنّ الاتجاه الغالب كان نحو تغلیب القدرة الألوهیّة على اختیار الإنسان. ویقال عادة إنّ الحلّ الآخر، الحلّ المعتزلي، قد ألغي منذ البدایة. والمعلوم أن المعتزلة قد قالوا بالاختیار، أي بحریّة الإنسان، لكنّ مذهبهم لم یجد صدى قویّا واندثر على مرّ العصور. وقد كتب في هذا المبحث الكثیر من الباحثین المسلمین والمستشرقین، ولن نعود هنا إلى موقف المعتزلة وموقف مخالفیهم، ولن تهتمّ هذه الدراسة بنشأة هذا الجدل. لكنّنا سنتابع ما آل إلیه في القرون المتأخّرة، ونحلّل الصیغة التي وجده علیها دعاة الإصلاح الإسلامي في العصر الحدیث فحاولوا الانطلاق منها لإعادة صیاغة مواقف كلامیّة جدیدة تستجیب لرغبات الإصلاح. وسنرى كیف تغیّرت المواقف على المدى الطویل جدّا لتعود إلى فكرة حریّة الإنسان كما طرحت في البدایة، ولكن بالتخلّص من الإطار المعرفي الذي كان سائدا في عصر ظهورها الأوّل، وذلك من خلال متابعة تطوّر المسألة من العصر المدرسي إلى العصرالحدیث بدل التوقّف عند ظروف نشأتها في العصر الأوّل والعصر الكلاسیكي( 1). إذ سیحاول هذا المقال إثبات أنّ علم الكلام الإسلامي قد عاش حالا توازي ما عاشه اللاهوت المسیحي مثلا، من جهة التوتّر بین القول بالمذهبین، الاختیار والجبریّة، على مدى التاریخ كلّه، ولیس فقط في فترة التأسیس.