"تعد قضیة التراث إحدى خمس قضایا كبرى طرحت على النخبة المثقفة في العصرالحدیث، فلم یكن هناك بُدٌّ من تناولها معا مع القضایا الأخرى: الدولة، الآخر، الوحي،اللغة ولعل هذا ما یفسر كثرة الإنتاجات الفكریة حول هذه القضیة، فقد كتب في ذلك الدكتور محمد عابد الجابري مشروعه الكبیر: نقد العقل العربي "بأجزائه الأربعة(التكوین، البنیة، العقل السیاسي، العقل الأخلاقي)، بالإضافة إلى دراسته الموسومة: " نحن و التراث"، و توالت على مشروعه ردود عدة وبمناهج مختلفة، فكتب جورج طرابشي "نقد العقل العربي" و "مذبحة التراث" وتبعه علي حرب في "نقد النص" و بعد ذلك ألف طه عبد
الرحمن "تجدید المنهج في تقویم التراث". وهذه الكتابات من جهة هي عبارة عن ردود و لكنها من جهة أخرى هي طروحات جدیدة ووجهات نظر أخرى في التناول، إلا أنها تلتقي جمیعا في نقد المعرفة الدینیة التي باتت في حاجة ماسة إلى تفسیر وإعادة تقویم وخصوصا فیما علق بها من مخلفات اجتماعیة و تاریخیة لم یعد مسوغ للإبقاء علیها أو الاستمداد منها في حل القضایا والإشكالیات التي یعج بها المجتمع، ومن هذه الرؤیة تنبع أهمیة بحث إشكالیة التداخل ما بین المعرفة والسیاسة في الإسلام، ذلك أن نشأة الفكر الإسلامي لا بد وأن تكون حاملة لآثار الرقابة السیاسیة، لكون ذلك الفكر یؤسس لسلطة تشریعیة لإصلاح أحوال الناس في "المعاش والمعاد"، مما یفرض على السلطة السیاسیة بذل مجهودات قصد استمالة حاملي العلم لیصطفوا إلى جانبها بدل أن یتكتلوا في شكل معارضة فكریة و سیاسیة لتوجهاتها، و هذا ما یعطي لطبیعة العلاقة بین المثقف والسلطة بعدین متناقضین:إما التلاحم والاحتواء، وإما الصراع والإقصاء. ولقد وعى الفكر المعاصر-في بعض اتجاهاته- بخطورة هذه الإشكالیة، فظهرت في ذلك عدة دراسات تبحث في علاقة الفكر بالواقع وبالنص الشرعي، أو في علاقة رجل العلم مع رجل السیاسة في التاریخ الإسلامي، وهي تقریبا تتقاطع في تناول موضوعنا الرئیس جدلیة المعرفي و السیاسي في الإسلام" بالرغم من اختلاف زوایا النظر فیها بحسب تعدد الخلفیات الإیدیولوجیة و المحفزات المعرفیة التي تؤطرها، ولقد أسهم في كشف التباسات هذا الموضوع تطور تقنیات البحث التي حصلت في میدان العلوم الإنسانیة المعاصرة فلم یعد هناك فكر لا تفسیر له أو كلام لا سیاق له، فالمعارف ما هي إلا نتاج نسق ثقافي اجتماعي و اقتصادي معین مهما بلغت في التجرید و الافتراض. وللوقوف على هذه الإشكالیة، نشرع في تسلیط الضوء على واحدة من القضایا الثقافیة التي حامت حولها الأوهام وزلت فیها الأفهام، ونقصد بذلك علم الكلام، وقد استقر في الذهنیة العربیة الإسلامیة أنه علم یخوض في العقائد والإیمان بمنطق العقل والبرهان، ولكننا في هذه المحاولة سنتناوله من وجهة نظر أخرى مغایرة تتجاوز المعطیات الجاهزة وتطرح افتراضات جدیدة وفق ما تتحمله الأحداث والوقائع دون تعسف في التفسیر أو تحویر للنصوص