لا یخفى ما یمثله الحوار بالنسبة لحیاة الإنسان، فهو حاجة أصیلة وحیویة تفرضها طبیعته الاجتماعیة وأسلوب عیشه القائم على المشاركة والانفتاح على الغیر، والتعاون مع الآخرین لتلبیة الحاجات العملیة والنظریة، وتحقیق الإشباع المادي والمعنوي. وقد عُني الإنسان منذ القدیم بتأمل هذا النشاط وتقلیب النظر فیه لفهم حقیقته وتقعیده بصورة تجعله مفیداً ومثمراً. وساهمت مختلف الثقافات في هذا الباب وخصوصاً الثقافتین الیونانیة والإسلامیة. فقد أبدع الیونانیون في التنظیر لفنون الجدل والخطابة، فدرسوا هذه المباحث إلى جانب المباحث القیاسیة البرهانیة وتناولوها من جهة الوصف فكان عملهم استقصاء بارعاً لأوجه استثمار الملكة الخطابیة والجدلیة في تداول المعرفة، كما تناولوها من جهة التقویم فأبدعوا في إحصاء صور الخروج عن المظاهر السویة لهذا النشاط، فتركوا للبشریة تراثاً من النظریات المتفردة. كما تمیز المسلمون بعنایتهم الفائقة بهذا الموضوع حتى صارت مباحث المناظرة والمباحثة من الفنون التي تحتل موقعاً متمیزاً ضمن العلوم الإسلامیة، فبرزت مدارس مختلفة في هذا الفن، وضعت مبادئ وقواعد في ضبط ممارسته تستهدي بعدة منطقیة غایة في الإحكام، كما سنت آداباً وأصولاً تعصم كل من درج في سلكه عن السقوط في بعض الآفات التي تنال من قیمته وتقلل من إنتاجیته، فكانت المناظرات التي أبدعها المسلمون نماذج باهرة للحوار العاقل والمتأدب، أصبحت معیناً تنهل منه أجیال العلماء والباحثین على مدار القرون، وتوجه بقواعدها المنهجیة وقیمها الخلقیة كل الراغبین في جعل الحوار أرضیة تقوم علیها علاقة تشارك بین الأفراد والجماعات بدل الخضوع لنوازع الإكراه والإقصاء والعنف.