تشير طبيعة النشأة التاريخية للعلوم الإسلامية وتفاعلاتها مع مواقع الوجود الإنساني إلى حضور البعد العقدي في الكتابات العلمية لمفكري الإسلام، ولذلك يكاد ينعدم وجود أحد من العلماء مجردة عن رؤية عقدية من الرؤى والاتجاهات المعروفة عبر تاريخ علم الكلام، وحتى الذين سلكوا منهم طريقة مجانبة للبحث في العلوم الأكثر ارتباطا بعلوم الشريعة كالفقه والأصول والمقاصد والحديث ونحو ذلك يشملهم هذا الحكم، كابن خلدون مثلا، الذي اشتهر بالكتابة التاريخية والعمرانية. مما يوحي بعدم إمكانية إغراق البحث التاريخي في جدليات تحقيق الحكايات واقتفاء الروايات، في غياب أنفاس عقدية تفشر كتابة الأحداث وتدوينها، وقد تردد أكثر من باحث في تحديد الاتجاه الكلامي لابن خلدون، كعمر فروخ في كتابه (الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون). تأتي هذه الدراسة للنظر في مدى کلامية ابن خلدون وحدود تلازم الارتباط الكلي بتلك التصنيفات التقليدية، وللبحث في أبعاد التداخل العلمي بين علم الكلام وعلم أصول التاريخ، ثم في نطاقات الاستصحاب العقدي في دراسات ابن خلدون. يقوم اختيار الأنموذج الخلدوني في عرض مباحث هذا الموضوع على أساس قوته في التاريخ، وهيمنته في العلم، ووضوحه في المنهج؛ لأن الحضرمي مهد الكتابته التاريخية بمقدمة منهجية عليا في مقامها، وبين أسسها تأصيلا للمعرفة التاريخية، كاشفا فيها عن منهجه ومزاوجة بين التاريخ العلم الكلام، واستحضار المعرفة الكلامية وخلفيته العقدية في تلك الكتابة؛ لذلك فإنه في اعتقادي أن العمل على كشف أسس الموضوع وأصوله لدى ابن خلدون سيفتح لنا المجال واسعة على طرق أبواب نماذج علمية أخرى، من الدرجة نفسها أو دونها؛ لمواصلة هذا المشروع العلمي الذي نأمل إنهاءه بحول الله تعالى.